مقال الباحثة الجزائرية فتيحة بشيخ عن ديواني الشعريّ “السماء ترتب بيتها لآخر مرة”


بقلم فتيحة بشيخ

(صحيفة الأنوار الجزائرية الأسبوعية، العدد 44، عام 2021)

صدر للشاعر والمترجم السوري فادي أبو ديب عن دار الأمل للطباعة والنشر والتوزيع، في تيزي وزو بالجزائر ديوان شعري بعنوان “السماء ترتب بيتها لآخر مرة” . كما صدر له، سابقا، ثلاثة دواوين شعرية، فقد ترجم العديد من الأعمال، ويعمل الآن مدرسا للغة العربية بجامعة دالارنا بالسويد، ويحضّر بجامعة بلجيكا رسالة دكتوراه في الدراسات اللاهوتية حول الفلسفة المستيكية للشاعر والفيلسوف الروسي فلاديمير سولوفيوف. يتضمن ديوان” السماء ترتب بيتها لآخر مرة” ثلاث قصائد تحمل العناوين التالية: “وللحرية الحمقاء باب” و”سوق غير شعبية” و”مخطوطات البحر الأبيض المتوسط”. منذ البداية، يدرك القارئ أن عنوان الديوان “السماء ترتب بيتها لآخر مرة ” مرتبط بالدلالات الإيحائية التي تنتجها المعاني في النص بواسطة الرموز والمشاهد والصور التي تحيل إليها القرائن التي تدل على السماء وعلى البيت مثل صباحات مشمسة/ والفجر تخطفه الآلهة/ آلهة تستقوي بالشمس/ والصبح يشرق /الضباب ينام على السهل/ أنا الآتي من نبتون/ كوكبكم/ المجرة/ جوبيتر /مدينة/ النافذة/ الحجرات/ القرية/ منازل/ الأبواب/ المفاتيح/ الشوارع وغيرها من القرائن. في هذا الديوان مشهدية مركزة تخلق مشاهد مختلفة تثير فينا أحاسيس متناقضة حادة كالحنين إلى وطن أحرقته أحلام الحرية، وطن يفر منه أبناؤه بحثا عن الحرية وعن السلام، وطن يأسر أحلام الطفولة. ويعبر الشاعر فادي أبو ديب عن عدة قضايا التي تشغله دون أن يصرح بذلك مباشرة وإنما باستخدام أساليب فنية غير مباشرة تخدم رؤيته الشعرية.
شعرية المكان
يسيطر حضور المكان، في هذا العمل الإبداعي، كأحد التقنيات التي يستخدمها للتعبير عن الغربة والكون والتاريخ. ومن الملاحظ، أن الأماكن المتعددة فيه تنقسم إلى أماكن مغلقة ترمز إلى الوطن مثل البيت والدكاكين والحجرات والأسواق، وإلى أماكن مفتوحة ترمز إلى الحرية كالطبيعة والبرية والكواكب والبحار والغابات، وغيرها. ففي قصيدة “سوق غير شعبية” يرسم الشاعر أبو ديب مشهدا دراميا يستحضر فيه أهم الأماكن التي تتميز بها البيئة الشامية كمحلات بائع التوابل والإسكافي والساعاتي فيقول: مشغل الإسكافي جدرانه من جلد وهواءه مفلفل بأصباغ الذاكرة.. يرسم عليها فرحة شاب يلمح خيال سترة جديدة تثير هذه الصور عدة تأويلات، حيث تحيلنا إلى حنين الشاعر إلى الوطن وشتى الأماكن التي رسمت ظلال طفولته ورسخت في ذاكرته وشكلت مخياله، وفي هذا السياق، يمكن القول إن دلالة المكان تصنع من الأماكن المحفورة في ذاكرتنا منذ زمن بعيد، وإن مهمة الشاعر هي إعادة تشكيل تلك الصور المطمورة في لاوعينا في سلسلة من المشاهد المكثفة والمكتنزة بالدلالات والترميزات، كما يشير إلى ذلك غاستون بشلار، في كتابه جماليات المكان، حيث أبرز أن “أجود عينات الاستمرارية المتحجرة الناتجة عن البقاء الطويل في المكان، توجد في وعبر المكان: مقصورات اللاوعي”. وتفضي القراءة المتأنية لديوان أبو ديب إلى استنتاج هو أن الشاعر أبو ديب يستخدم صور الأماكن بعد إعادة صياغتها ومن ثم يحملها بشحنات دلالية جديدة تخدم رؤيته للكون وللواقع ولأحلامه. ففي هذا المقطع التالي: “مشرقي أُراكِم في دمي أحبار الكتب…. لأتكوّر، مماسا لقوس حجرتي الدائرية…. في الأسواق وفي روائح العصور المختلطة في الشرفة الممتدة أمام ملاعب الشمس في بهجة الطبيخ المطلسم بالتوابل … يقوم، هنا، الشاعر أبو ديب باستدعاء عناصر من البيئة الشامية المعروفة بالأسواق وروائح التوابل وأقواس البنايات ويعيد تشكيلها بهدف القبض على تلك اللحظات الساكنة في ذاكرته المفعمة بعبق الطفولة والأحلام بأسلوب فني؛ فالمكان الذي نحن إليه هو تجسيد لأحلامنا، بتعبير الفيلسوف باشلار.
التعبير بتقنية المعادل الموضوعي
ومن بين أبرز التقنيات التي يوظفها فادي أبو ديب تقنية المعادل الموضوعي لكي ينأى بتجربته عن الانفعالية والتقريرية والمباشرة. ومن المعروف أن تقنية المعادل الموضوعي قد ارتبطت بالشاعر الإنجليزي توماس إليوت التي طبقها في كثير من أعماله الشعرية والمسرحية ولقد نظَّر لها في مقالته التي تحمل عنوان” هاملت ومشكلاته”. في هذه المقالة عرَف إليوت المعادل الموضوعي أنه ” طريقة للتعبير عن الأحاسيس في شكل فني يتم بواسطة إيجاد مجموعة من الأشياء والوضعيات والمواقف وسلسلة من الأحداث التي تصبح فيما بعد صيغة بديلة لذلك الإحساس المعين، حيث أن تلك الصيغة تثير ذلك الإحساس نفسه لدى القارئ”. ويظهر استخدام الشاعر فادي أبو ديب للمعادل الموضوعي جليا في قصيدة ” وللحرية الحمقاء باب”، حيث تمكن فيها من تصوير مأساة الشعب السوري من دون أن يصرح بذلك مباشرة بل من خلال مشهدية درامية وحالات ووضعيات مكنته من نقل أحاسيس هؤلاء الذين فروا من الحرب وعانوا من أهوال البحر أملا في النجاة بأنفسهم ويتجلى هذا بوضوح في هذا المقطع: أنا أمّي أراقب صدر الماء وأصغي إلى دقات قلب النار لن تفهم ما أكتب لأنك تنتظر صباحات مشمسة وأنا أنتظر بحرا يحاصرني وسفينة بحجرات كثيرة تأتي بعد حلول شبه الرمادي /يخرج إليها الناس من الشبابيك ومن بين أغصان الزيتون/ تعنقدت عليها كرات اللهب. ففي هذا النص، تكثيف لأحاسيس الحرقة على ضياع الوطن عن طريق توظيف تقنية المعادل الموضوعي من خلال الجمع بين نقيضين وهما الماء والنار في صورة مغايرة عن الواقع الحرفي غير الشعري حيث أن الماء يطفئ النار عادة، ولكن الشاعر فادي أبو ديب قد قام بتحويل الماء إلى نار ليثير فينا أحاسيس حرقة المتشبث بالحياة داخل ظلمات وأهوال البحر. أما عبارة “بعد حلول شبه الرمادي” فترمز فيها كلمة “الرمادي” إلى تلك اللحظة التي يفقد فيها هؤلاء الفارين من الحرب والموت الأمل في النجاة من الغرق. ويلاحظ قارئ هذا الديوان للشاعر أبو أديب أنه يستخدم الصور للتعبير فنيا عن كدمات الحرب ونحر رمزيات السلام منها مثلا هذه الصورة المركبة المثيرة للألم: “ومن بين أغصان الزيتون/ تعنقدت عليها كرات اللهب.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.